خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الباقر(ع) أحد أصحابه وهو جابر الجعفي، والتي وجهها لنا عبره هذا الإمام الذي نستعيد ذكرى وفاته في السابع من هذا الشهر المبارك، حين قال له: “يَا جَابِرُ مَا الدُّنْيَا؟ وَمَا عَسَى أَنْ تَكُونَ؟ هَلْ هُوَ إِلَّا مَرْكِبٌ رَكِبْتَهُ، أَوْ ثَوْبٌ لَبِسْتَهُ، أَوِ امْرَأَةٌ أَصَبْتَهَا؟ يَا جَابِرُ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَطْمَئِنُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِبَقَاءٍ فِيهَا، وَلَمْ يَأْمَنُوا قُدُومَ الْآخِرَةِ… فَفَازُوا بِثَوَابِ الْأَبْرَارِ، إِنَّ أَهْلَ التَّقْوَى أَيْسَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا مَؤُونَةً، وَأَكْثَرُهُمْ لَكَ مَعُونَةً، إِنْ نَسِيتَ ذَكَّرُوكَ، وَإِنْ ذَكَرْتَ أَعَانُوكَ، قَوَّالِينَ بِحَقِّ اللَّهِ، قَوَّامِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ… يَا جَابِرُ؛ أَنْزِلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ مَنْزِلٍ نَزَلْتَ بِهِ وَارْتَحَلْتَ عَنْهُ، أَوْ كَمَالٍ أَصَبْتَهُ فِي مَنَامِكَ، فَاسْتَيْقَظْتَ وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ… يَا جَابِر؛ “ما من شيءٍ أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من أن يُسأل، وما يدفع القضاء إلّا الدّعاء… وكَفى بِالمَرءِ عَيباً أن يُبصِرَ مِنَ النّاسِ ما يَعمى عَنهُ عن نَفسِهِ، أو يَنهى النّاسَ عَمّا لا يَستَطيعُ التَّحَوُّلَ عَنهُ، وأن يُؤذِيَ جَليسَهُ فيما لا يَعنيهِ”…
أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا، لنعي من خلالها مسؤوليتنا اتجاه أنفسنا واتجاه من حولنا، لنكون أكثر وعياً ومسؤولية وقدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من التقرير الصادر عن منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، الذي يشير، وبناء على دراسة أجرتها، أن حوالى 9 من كل 10 أسر في لبنان لا تملك المال لشراء الضروريات، وأن عدداً متزايداً من الأسر يضطر إلى اللجوء لإرسال الأطفال وبعضهم لا يتجاوز الست سنوات للعمل في محاولة يائسة منهم للبقاء في قيد الحياة، وأن 15% من هذه الأسر أخرجوا أطفالهم من المدارس لعدم قدرتهم على الوفاء بالأقساط المدرسية.
ونحن نشهد إلى جانب ذلك المزيد من طالبي الحاجة كل يوم لتأمين قوتهم أو قوت عيالهم أو للحصول على دواء واستشفاء أو لتأمين مقعد دراسي لأولادهم، وهذا الوضع كان يمكن أن يكون أقسى لولا المساعدات والإعانات التي تقدمها المؤسسات الاجتماعية أو مما يأتي من المغتربين في الخارج.
لكن هذا التقرير يأتي ليكون، إضافة إلى كونه توثيقاً، شاهداً إضافياً على المسؤولية التي تقع على عاتق القوى السياسية المعنية بشؤون هذا البلد للعمل بكل جدية ومسؤولية والقيام بدورهم برفع المعاناة عمن أوصلوهم إلى مواقعهم، وهم قادرون عليها إن هم تحرروا من حساباتهم الخاصة ومصالحهم الفئوية ورهاناتهم، وقرروا أن يمدوا أيديهم بعضهم إلى بعض للعمل سوياً لتأمين الاستحقاقات التي تكفل بإخراج البلد من الانهيار وإنسانه من معاناته، والتي تبدأ برئيس قادر على قيادة سفينة البلد، وصولاً إلى حكومة كفوءة، أو الاستحقاقات الأخرى القادمة بعدما ثبت وبالوقائع أن لا قدرة لأحد على فرض خياره أو أخذ البلد إلى حيث يريد، في بلد بني على التوافق ويستمر عليه.
ونحن هنا ننظر بإيجابية إلى كل يد تمتد إلى اللبنانيين لتساعدهم على بلوغ ذلك، وندعو إلى التجاوب مع أي خطوة تؤدي إلى فتح باب الحوار بين اللبنانيين وسد الهوة في ما بينهم، بعدما بتنا نخشى أن تكون القوى السياسية قد اقتنعت ان لا حل إلا بتدخل الخارج، لكننا نجدد القول إن الحل سيبقى مرهوناً بإرادة القوى السياسية ومدى استعدادها للتوافق في ما بينها على تحرير الاستحقاق من سياسة التعطيل التي باتت تتكرر لدى كل استحقاق ونحن نرى أنه إذا كان هناك من دور للخارج فهو إعانة اللبنانيين على ذلك لا أن يكون بديلاً منهم…
وهنا نعيد التأكيد أن التوافق لا يعني المحاصصة أو تقاسم الجبنة كما كان يحصل سابقاً والذي أودى بالوطن إلى القاع الذي وصل إليه، بل بالتوافق على اختيار الأفضل، ومن هو المؤهل لإدارة شؤون هذا البلد وباعتماد الخطة الأمثل للنهوض الاقتصادي والاجتماعي فيه.
إن من المؤسف أن نسمع حديثاً يقول إن إنجاز الاستحقاق لن يتم قبل وقت طويل، وما على اللبنانيين إلا الصبر إلى أن تشفق عليهم القوى السياسية أو من يمونون عليهم بحل عقدة الاستحقاق هذه، وهذا ما يعبر عن ذروة التحلل من المسؤولية.
وإلى أن يحصل ذلك، فإننا نعيد دعوة الحكومة ومعها المجلس النيابي إلى القيام بالدور المطلوب منهم للتخفيف من الأعباء على المواطنين بدلاً من التفكير بزيادة الأعباء عليهم والعمل لمعالجة جادة للقضايا المطروحة التي لا تنتظر، وذلك بحل أزمة موظفي القطاع العام لإعادة دورة العمل ولعدم تعطيل معاملات المواطنين، وبمنح الأولوية وتوفير كل الإمكانات لعودة المدارس الرسمية ليتسنى للطلاب حماية مستقبلهم الدراسي بعدما أصبح واضحاً مدى عبء التعليم في المدارس الخاصة والذي قد لا يستطيع الكثيرون تحمل أكلافه، ومعالجة جادة لأزمة النازحين وعدم إبقائها في دائرة المراوحة أو التجاذب السياسي الداخل أو الخارج.
ولا يفوتنا، في هذا المجال، أن نقدر كل الجهود التي تبذل على هذا الصعيد والعطاءات التي تقدم من المؤسسات أو من الأفراد في الداخل أو الخارج التي قد تساهم في التخفيف من هذه الأزمة ولكنها لا تشكل حلاً لها.
ونعود إلى فلسطين التي ينبغي أن تبقى في الواجهة، لنحيي الروح البطولية المتجددة دائماً لدى الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أو في غزة، التي شهدت تطوراً نوعياً في أداء المقاومة الفلسطينية، أو في العملية التي أقضت مضاجع العدو الصهيوني وكشفت ضعف استخباراته، والتي جاءت لتؤكد عن إرادته الثابتة لإزالة كاهل الاحتلال عنه، وأنه لا ينام على الضيم ويرفض الذل والهوان رغم التضحيات والأثمان التي يدفعها، وأن رهان العدو الصهيوني على إسقاط عزيمة هذا الشعب وضعف إمكاناته هو رهان خاسر.
في الوقت الذي ندعو الدول العربية والإسلامية وشعوبها إلى دعمه في مسيرته وأخذ العبرة من هذه الإرادة على مواصلة المقاومة ضد عدو رغم كل ما يعاني منه هذا الشعب من حصار وتضييق، والقدرة على منعه من تحقيق أهدافه، بما لا يبرر روح الهزيمة السائدة والرضوخ لدعوات الاستسلام والتطبيع مع هذا العدو.
وأخيراً، نعيد الإشارة إلى أن يوم العيد سيكون إن شاء الله الأربعاء القادم في الثامن والعشرين من هذا الشهر، سائلين المولى أن يعيده عليكم بالخير واليمن والبركة والأمن والسلام، وأن نعبر فيه عن استعدادنا للتضحية بالغالي والنفيس لضمان عزتنا وكرامتنا ومستقبل آمتنا والعيش الكريم لإنساننا…