التوافق والتدافع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية … أ. د. محسن محمد صالح
بخلاف ما هو متداول ومنتشر في عدد من الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية وحتى الأكاديمية، فإن الحركة الصهيونية ذات جوهر ديني، حتى وإن أخذت الشكل والبنى العلمانية، وقادتها قيادة علمانية؛ وثمة تداخل بين ما هو علماني وما هو مقدس في الشخصية الصهيونية. وكذلك فإن أبرز الرواد الأوائل للفكرة الصهيونية كانوا من الحاخامات، حيث سبقوا الرواد العلمانيين الذين أنشأوا لاحقاً المنظمة الصهيونية العالمية. كما أن التيار الصهيوني الديني كان حاضراً منذ بدايات المنظمة الصهيونية العالمية، ولم يأتِ متأخراً.
يحاول هذا المقال تحرير العلاقة بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، خصوصاً في ضوء صعود تيار الصهيونية الدينية هذه الأيام، ومحاولة فرض رؤيته التوراتية على المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة؛ وكذلك محاولة حسم قضية فلسطين وإغلاق ملفها وفق تصوراته.
أولاً: في الجوهر الديني للحركة الصهيونية:
من الأصول التي تقوم عليها الديانة اليهودية حسبما يذكر اليهود أنفسهم:
1. عقيدة الاختيار الإلهي لليهود أو لبني إسرائيل، فهم “شعب الله المختار”، وهم “أمة” مستقلة بذاتها.
2. عقيدة توريث الأرض المقدسة فلسطين لإبراهيم عليه السلام ونسله من بني إسرائيل؛ أو عقيدة “أرض الميعاد”؛ ففلسطين ممنوحة لهم بصكٍّ توراتي.
وبغض النظر عن الخلفيات الأيديولوجية للمدارس المنتمية للحركة الصهيونية، فإن جوهر الفكرة نفسها يستند إلى ادعاءات دينية، فالفكرة الصهيونية تستند على أساس أن:
1. اليهود جنس مستقل، وأمة مستقلة من دون الأمم، وهي فكرة ذات جوهر ديني، وليس جوهراً قومياً. فما الذي يجمع اليهودي الخزري الروسي باليهودي اليمني باليهودي الإيراني واليهودي الفلاشا … وغيرهم، سوى رابطة الانتماء للدين بغض النظر عن درجة الالتزام بالدين نفسه. فالصهيونية رفضت فكرة الاندماج و”المواطنة” لليهود في البلدان التي ينتمون إليها، ومثّلت الصهيونية نقيضاً أو بديلاً عن فكرة “الهسكلا” أو “التنوير” التي دعت إلى ذلك في الوسط اليهودي، وكانت سبباً في إفشالها. وقدمت الصهيونية اليهود باعتبارهم “أمة” أو”شعباً” يتجاوز الجغرافيا والدول القطرية.
2. حق اليهود في فلسطين، وهي فكرة ذات جوهر ديني أيضاً، وقد يختلف اليهود إن كان هذا الحق بناء على وعد رباني، أو حقاً تاريخياً، أو حقاً قومياً، أو ثقافياً أو روحياً. لكن هذه الفكرة انغرست في “الوجدان” اليهودي، وإن وجدت تعبيرها في أشكال مختلفة. وإن اليهودي المتدين والعلماني والشيوعي والقومي، وكذلك اليهودي أياً كانت انتماءاته القومية، كلهم يلتقون على هذه المقولة.
وبغض النظر عن أي مناقشة علمية وعن حقائق التاريخ، فإن ما يعنيهم هو إيمانهم هم “بحقهم” هذا. ولذلك لا يبقى سوى الرجوع إلى الأساس الديني الغيبي الذي انغرس في أذهانهم.
وحتى عقيدة “المخلص المنتظر” أو المسيا أو الماشيح كما يسمونه، وقدوم المخلص بالنسبة للمتدينين اليهود مرتبطة بعودتهم إلى فلسطين.
إن أول حاخام أكبر لليهود في فلسطين “ابراهام اسحق كوك” (1868- 1935)، الذي عُدَّ أكبر قوة موجهة في الحياة العامة لليهود في عصره، وهو زعيم مؤسس في الصهيونية الدينية، كان يؤمن أن الحركة القومية اليهودية [أو الصهيونية بتعبير آخر] على الرغم من اتجاهاتها العلمانية البادية على أتباعها، فإنها في التحليل النهائي والأخير ليست إلا حركة دينية في جوهرها وحقيقتها، وأنها تصدر أصلاً عن نزعة دينية “هي الصفة الراسخة لليهود التي اختصوا بها من بين الأمم الأخرى”. ويرى أن هذه الحركة القومية هي “حركة روحية خالصة على الرغم من نزعتها العلمانية وميول قادتها التي لا تعكس ظاهرياً روحاً متدينة”. ويرى أن السلوك اللاديني البادي للعيان ليس كفراً أو جحوداً وزيغاً عن الدين، بقدر ما هو عدم اكتراث نتيجة قصور في الفهم، أو عجز في الإدراك. وقد أظهر كوك قدراً كبيراً من التفهم والتسامح وحسن المعاشرة معهم لاعتقاده أن “الأرض المقدسة من حيث كونها مظهراً لكل الكمالات الإلهية السامية، سوف تلعب دورها الروحي في تصحيح سلوك هؤلاء المقصرين ظاهرياً”. وقد تمتع كوك بنفوذ واسع في صفوف اليهود الأرثوذكس، وبذل جهداً استثنائياً لإقناعهم بالانضمام للصهيونية.
ثانياً: التداخل والتماثل بين الديني والقومي:
فالوعاء القومي هو نفسه الوعاء الديني لدى اليهود، والتعريف الرسمي المعتمد في الكيان الصهيوني لليهودي بأنه المولود لأم يهودية، وبالتالي فالهوية اليهودية ترتكز على النسب أكثر من ارتكازها على الاعتقاد الديني.
وينقسم اليهود في الواقع المعاصر إلى قسمين رئيسين من الناحية الدينية:
القسم الأول: يهود قوميون، أي على أساس الانتماء العرقي، وهم يرون أن يهوديتهم تكمن في قوميتهم وفي أسلوب حياتهم، وميراثهم الثقافي الاجتماعي. وهؤلاء كتلة كبيرة في الوسط ليهودي لا تقل عن نصف يهود الولايات المتحدة ونصف يهود الاتحاد السوفييتي سابقاً.
القسم الثاني: يهود يؤمنون بصيغة ما من صيغ العقيدة اليهودية، وهم ينقسمون بدورهم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: اليهودية الأرثوذكسية: وهي وارثة اليهودية الحاخامية أو التلمودية، وهي الصيغة الرسمية المعتمدة في الكيان الصهيوني؛ والثانية اليهودية الإصلاحية: وهي التي تُحكِّم العقل في كل شيء، وتحاول أن تفصل بين ما هو ديني فتحترمه وتلتزم به، وبين ما هو قومي فترفضه؛ والثالثة اليهودية المحافظة: وهي تحاول أن تجمع بين اليهودية الأرثوذكسية وبين اليهودية الإصلاحية. وهي تؤمن بالوحي السماوي لبني إسرائيل، وتتخذ موقفاً إيجابياً من فكرة العودة وإقامة الدولة اليهودية، كما تؤمن بالبنية العامة للتقاليد المتوارثة عن الحاخامات، لكنها تحتفظ بحق تفسيرها وتأويلها تبعاً للمصلحة ومقتضيات العصر. وقد أباحت اليهودية المحافظة والإصلاحية ترسيم النساء حاخامات، وأباحتا الشذوذ الجنسي بين الذكور والإناث، بل ويرسم الشواذ والسحاقيات حاخامات.
إن أولئك الذين يؤمنون بالتوراة والتلمود وحياً إلهياً، أو أولئك الذين يرونها تراثاُ ثقافياً، أو مجموعة من الخرافات والأساطير، يتفقون في النهاية أنها هي التي شكلت الوعي الجمعي العام لليهود، وكانت العامل الحاسم في تشكيل معالم حياتهم عبر العصور.
والفكر اليهودي-الصهيوني يركز على الارتباط العضوي بين الله والشعب والأرض، وحسب الحاخام حاييم لانداو: “إن روح شعبنا لا تستطيع التعبير عن نفسها إلا إذا عادت الحياة القومية إلى أرضنا من جديد”، لأن “القبس الإلهي لا يؤثر في شعبنا إلا وهو في أرضه”. وعندما سئل موشيه دايان (رئيس الأركان ووزير الدفاع ووزير الخارجية سابقاً في الدولة الصهيونية) بخصوص دعاوى الصهاينة الدينية والتاريخية في فلسطين المحتلة قال:” هذا أساس الوجود الإسرائيلي، إنه واحد من العناصر الثلاث التي تشكل إسرائيل وهي الشعب اليهودي والكتاب المقدس وأرض اليهود”، ولذلك “إذا اجتمعت التوراة وأمة التوراة فلا بد أن تكون معها أرض التوراة”.
فمثلاً، إذا كان الأساس الذي قام عليه الإسلام هو التوحيد “الشهادتين” بهما يدخل المسلم في هذا الدين، وبإنكارهما يخرج؛ فإن الأساس الذي يفصل بين إيمان اليهودي وكفره ليس مرتبطاً بالإيمان بربه أو التوراة أو بالتزامه الديني، وإنما بالانتماء والولاء للجماعة اليهودية. فاليهود يؤمنون أن روح الله حلَّت في شعبه اليهودي (عقيدة الحلول)، وبالتالي فقد أخذ الشعب طابعاً قدسياً.وكان الحاخام الأكبر كوك يقول: “إن الله قد حلّ في الأمة، وبذا أصبحت إسرائيل مشبعة بروح الله، بروح الاسم المقدس”، ويقول: “إن كل ممتلكات إسرائيل القومية العزيزة على قلوب اليهود – الأرض واللغة والتاريخ والعادات – إن هي إلا أوعية لروح الرب”، وإن “روح إسرائيل وروح الله هما شيء واحد”.
أما الحاخام شختر فكان يقول: “عندما وجدت إسرائيل نفسها وجدت إلهها”. وكان الحاخام لاناو يشير إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة واحدة” وكل القيم الأخرى إن هي إلا أداة في يد هذا المطلق”، ثم حدد هذا المطلق بأنه الأمة (الشعب اليهودي). من ناحية أخرى، فليس كل من يعمل لمصلحة أتباع دينه أو “أمته” مُتديّن بالضرورة، لأن هناك من يخدم أبناء دينه بدوافع الانتماء القومي أو الحضاري..، وقد يكون “علمانياً” في المعايير الدينية لملته. ولتوضيح الأمر وتقريب الصورة، مع إدراكنا للفارق، فإن حزب رابطة عموم مسلمي الهند الذي قاده محمد علي جناح للانفصال عن الهند، وإقامة دولة باكستان الإسلامية ونجح في ذلك سنة 1947، كان عدد لا يستهان به من أعضائه علمانيين أو غير متدينين. وربما كان لديهم عاطفة صادقة تجاه المسلمين بأن يقيموا دولتهم ويديروا أمورهم بأنفسهم، ولكنهم لم يكونوا معنيين كثيراً بتطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان، فأنشأوا نظاماً علمانياً. وهذا المثال ينطبق على القيادة “العلمانية” لقومية الملايو المسلمين في ماليزيا (التي حكمت الدولة) حيث يتداخل القومي بالديني.ثالثاً: علمانيون ولكن “مقدسون”:
إن الفكرة المركزية في الأيديولوجية الصهيونية هي الامتزاج والتداخل الكامل بين القداسة والقومية، وهي تعبر عن نفسها في الإنسان والمكان والزمان، وأهم عناصرها الإنسان أي “الإنسان المقدس” أو “الشعب اليهودي المقدس”. وستجد أن رؤية اليهود بوصفهم شعباً مقدساً تتكرر في مقولات هرتزل “الليبرالي”، وبن جوريون العمالي الاشتراكي، وبورخوف الشيوعي، وإن كانت تتخفى دائماً تحت “ديباجات” مراوغة.
والحركة الصهيونية قدمت نفسها امتداداً لليهودية وليس نقيضاً لها، واستخدم الصهاينة وحتى الملاحدة منهم مقولات دينية، وتعاملوا مع دينهم اليهودي بروح أكثر إيجابية وانفتاحاً من تلك التي أظهرها المُلحدون من المسلمين والمسيحيين. وكان ماكس نوردو القيادي الصهيوني الكبير (والذي كان مقرباً إلى هرتزل، وعمل رئيساً أو نائباً لرئيس عدد من المؤتمرات الصهيونية) يُعدُّ ملحداً، ولكنه عدّ الدين “مصدراً لطاقة بناء كاملة”. وكان جابوتنسكي ملحداً أيضاً، وهو مؤسس الصهيونية التنقيحية، والأب الروحي لرئيس الوزراء الصهيوني الأسبق مناحيم بيغن وتجمُّع الليكود، وقد تحدث عن نفسه بوصفه بَنَّاءً يسهم في بناء معبد جديد لربه الذي أسماه “الشعب اليهودي”. أما الزعيم الصهيوني نحمان سيركين الذي يُعدُّ أبرز مؤسسي الصهيونية العمالية (التي حكمت الكيان الصهيوني منذ إنشائه وحتى 1977) فأشار إلى اليهودي المقدس بوصفه نبياً وشهيداً بل ومسيحاً مصلوباً!! على حدِّ تعبيره. وتحدث الزعيم الصهيوني موشيه ليلينبلوم (الذي بدأ حياته عالماً دينياً ثم تحوّل علمانياً تاركاً للدين) قائلاً إن “الأمة كلها أعز علينا من كل التقسيمات المتصلبة . . . فلا مؤمنون ولا كفار، لأننا كلنا مقدسون سواء كنا غير مؤمنين أو أرثوذكسيين”. وهكذا فإن هذا المفكر الصهيوني بعد تحوله للإلحاد، إلا أنه كان ما يزال يرى نفسه مقدساً!! لأن “الشعب اليهودي” بالنسبة له هو مصدر القداسة!!
وقد حاول المفكر الصهيوني كلاتزكين توضيح الأمر فقال إن اليهودية “تعتمد على الشكل لا على المضمون”، وهذا الشكل الأساسي – كما يقول- هو تخليص الشعب اليهودي للأرض، أما المضامين الروحية والفكرية فهي تختلف بشكل راديكالي وهذا لا يهم لأن “مضمون الحياة نفسه سيصبح قومياً عندما تصبح أشكالها قومية” ولا يهتم بن جوريون، المؤسس الفعلي للكيان الصهيوني وأول رئيس وزراء، إن كان مَنْحُ اللهِ أرضَ كنعان لليهود حقيقة إلهية أم لا، بل المهم عنده أن هذه “الأسطورة” مغروسة في وجدان “الشعب اليهودي”، ويجب أن تبقى سارية المفعول، حتى ولو ثبت غير ذلك”. أي أن مصدر الشرعية عنده ليس بالضرورة الوحي الإلهي، وإنما الشعب “الذي حلَّت فيه الروح الإلهية” حسب ادعائه؛ ويكفي أن يقتنع الشعب بذلك ليصبح هذا أمراً مشروعاً وحقاً لا نزاع فيه.
إن الحديث بعد ذلك عن وجودية هرتزل وعلمانيته الصارمة، التي وصلت حد الإلحاد حتى إنه تعمد انتهاك الشعائر اليهودية عندما زار القدس، أو عن استهزاء ماكس نوردو بالتوراة وقوله إنها “طفولية بوصفها فلسفة، ومقزرة بوصفها “نظاماً أخلاقياً”، أو عن تلذذ حاييم وايزمن أحياناً بمضايقة الحاخامات بشأن الطعام المباح شرعاً لدى اليهود… إن الحديث عن ذلك كله وغيره ينبغي أن يوضع في إطاره المحدود، فهؤلاء في نهاية الأمر وفي خلاصة التحليل خدموا التطلعات اليهودية الدينية في فلسطين، وسعوا إلى إنقاذ بني دينهم (قومهم) والارتقاء بهم وبناء دولة لهم. كما اتسعت حركتهم الصهيونية للتيارات الصهيونية الدينية وغيرها، كما اتسعت دولتهم الصهيونية بعد ذلك لهذه التيارات لتعبر عن نفسها، بحرية وتشارك في القيادة السياسية، وتفرض شروطها حسب ما يتيح لها وزنها في نظامهم الانتخابي “الديمقراطي”. وبالتالي فإن شيوعية أو علمانية هؤلاء لم تكن “إقصائية” أو “استئصالية”، وإنما متعايشة بل ومتكاملة مع غيرها. وظلت خدمة “الشعب المقدس” هي الرابطة التي تجمعهم، ولذلك لم تخل الوزارة الإسرائيلية منذ إنشاء الكيان الصهيوني 1948 وحتى الآن من وزراء يمثلون الأحزاب الدينية، ويمسكون بوزارات حساسة كالداخلية والتعليم.
رابعاً: حاخامات في الريادة الأولى للصهيونية:
يركِّز الكثير من دارسي المنظمة الصهيونية على هويتها العلمانية، من خلال التركيز على سلوك هرتزل ورفاقه المؤسسين للمنظمة، ولكنهم يتجاهلون الجذور التي غذت نشأتها، والرواد الأوئل الذين أسهموا في ظهورها فكرياً وأيديولجياً، كما أسهموا في اقتراح البرامج وخرائط الطريق وطرق التنفيذ؛ مما استفادت منه المنظمة الصهيونية لاحقاً، وكانت مَدينة لهم بالكثير… وهؤلاء الرواد الكبار أبرزهم لم يكونوا إلا حاخامات!!
كان شبتاي زفي (1626 – 1676)، الذي ولد في أزمير (في تركيا الحالية) وعاش في رحاب الدولة العثمانية، وادعى أنه المسيح الذي ينتظره اليهود، من أوائل من دعا إلى تجديد “الهيكل” في القدس، وإلى ما أسماه تحطيم قيود الذل والانحطاط واحتلال اليهود المركز اللائق بين أمم العالم، وتكوين لجنة تمثل اليهود في 15 بلداً، وتتخذ القرارات لتنفيذ هذا المشروع، بحيث يكون واجباً على اليهود جميعاً قبولها والخضوع لها. ودعا إلى أن يتم ذلك بالتنسيق مع فرنسا، أما الأرض التي دعا إلى “استعادتها” فهي فلسطين وإقليم الوجه البحري من مصر. ودعا اليهود “ألا يدخروا وسيلة أو تضحية في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، أي الرجوع إلى بلادنا، حيث يمكن أن نعيش في ظل شرائعنا الخاصة”. غير أن الدولة العثمانية سجنته، فأعلن إسلامه لكنه ظل على وفائه ليهوديته .. وعُرف أتباعه بعد ذلك بــ “يهود الدونمة”.
أما الحاخام يهودا القالي (القلعي) (1798-1878) المولود في سراييفو (عاصمة البوسنة، وكانت تحت الحكم العثماني)، فقد تصور في سنة 1843 أن الحل العملي “لاسترجاع” الأرض المقدسة هو في الدعوة لعقد جمعية عامة كبرى لليهود، وإقامة صندوق قومي لشراء الأراضي وإقامة صندوق مماثل لجباية الضرائب من اليهود. كما دعا إلى “عودة” اليهود كلهم، ولكن بشكل تدريجي متأن حتى يتم إعداد الأرض وتحضيرها، وهي الآراء التي تبنتها ونفذتها الحركة الصهيونية فيما بعد. كما دعا القالي إلى تشكيل مجلس للحكماء يكون باستطاعته فرض طاعته واحترامه على اليهود.
وكان الحاخام زفي هيرش كاليشر (1795-1874) الذي عاش في بروسيا (ألمانيا سابقاً) أحد رواد الصهيونية الكبار، وقد قضى معظم حياته في تورن في بولندا، وفي عام 1862 نشر كتابه “البحث عن صهيون” وكان أول كتاب يظهر في شرق أوروبا يتحدث عن الاستيطان الزراعي اليهودي في فلسطين. وقد أكد فيه أن بداية الخلاص اليهودي هي بالجهد الإنساني، وكسب موافقة الأمم على جمع اليهود في الأرض المقدسة، وأن العمل في الأرض المقدسة هو جهد مقدس، وقد حث على الاستيطان في فلسطين وإقامة منظمة تتولى ذلك.
وتُعد جمعيات أحباء صهيون أحد الإرهاصات السياسية التي وفرت قواعد عريضة ومتينة للمنظمة الصهيونية العالمية في شرق أوروبا خاصة. وقد بادر لتأسيس أول جمعية لأحباء صهيون الحاخام صموئيل موهيليفر (1824-1898) سنة 1882 ثم توالت فروعها في الانتشار، وانتخبته في مؤتمرها الأول عام 1884 رئيساً لها، ورأس مؤتمراتها العامة سنة 1887 وسنة 1889. وموهيليفر هو أبرز رواد الصهيونية الدينية، وله دور تأسيسي في المنظمة الصهيونية العالمية. وتجلى عمل جمعيات أحباء صهيون في دعم حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين وتشجيع الهجرة وإقامة المستوطنات، وغلب على هذه الجمعيات الطابع الديني، وعندما نشأت المنظمة الصهيونية العالمية سنة 1897، انضم إليها 260 فرعاً من هذه الجمعيات، مما شكل عنصر إثراء كبير ودفعة هائلة للمشروع الصهيوني.
وهكذا، فلعل شبتاي زفي يُعد الرائد الأول والأكبر للصهيونية (قبل هرتزل بنحو350 عاماً)، أما يهودا القالي (القلعي) فيعد الرائد الأول في القرن التاسع عشر؛ بينما توافق صدور كتابا “البحث عن صهيون” لزفي هيرش كاليشر، و”روما والقدس” للمفكر الصهيوني العلماني موزيس هيس الذي كان رائداً في إبراز الفلسفة الصهيونية العلمانية، في السنة نفسها أي 1862؛ في الوقت الذي كان فيه هرتزل ورفاقه مدينون لموليهيفر وتياره في نشر الصهيونية في الوسط اليهودي وخصوصاً الأرثوذكسي، وفي البرنامج العملي للاستيطان.